سوالف قلم .. العراق هيام الشرع

آه..آه يا موطني..
والله لقد أدميت قلبي

ذات يوم ومنذ أكثر من عقدين من الزمن غادرت بغداد الى الأردن مع عريسي الأردني لأستقر في بيت الزوجية .
لقد كنت يا موطني حاضرا في وجداني، لذلك رافقتني في رحلتي تلك.
حالة من الذهول والدهشة، رأيتها في ملامح زوجي رغم أنه حاول جاهدا أن يخفيها عني، حين حملت تسع حقائب كبيرة وضعت فيها كل مقتنياتي.
بعضها كانت محملة بجهاز عرسي، والبعض الآخر كان يعج بألبومات صور عائلتي الجميلة.
وبعض منها وضعت فيها كتبي المتنوعة ولوحاتي التي كنت قد رسمتها خلال دراستي الجامعية…
ايضا حرصت على أخذ مجموعة كبيرة من الكاسيتات (لناظم الغزالي) و (يوسف عمر) و(حسين نعمة) و(الكبنجي) و (سعدون جابر ) و (ياس خضر).
ورغم حالة الذهول والحزن، التي كانت تخيم على وجداني، لم أنسَ أن أجمع حفنة تراب من حديقة دارنا.
أتعلم لماذا يا وطني..؟
لأن النسيان آفة الإنسان…
ففعلت ذلك لتذكرني بأشجار مملكتنا التي كانت تقف دوما بزهو، تتلألأ بثمارها وأزهارها، فتضيء حتى ذرات الرماد بجمالها…
أه يا موطني….
لطالما كانت ملكة الليل مستودع أسراري، والورد الجوري مرسال حبّ، والدفلة شمسي وظلي..!
في ذلك اليوم كان في قلبي متسع لحقيبة أكبر من تلك الحقائب التسع.
حَمَلتٌها جحافل من ذكرياتي التي أوحى لي عقلي يومها، أنها ستكون ملاذي في غربتي وأنسي، وأنها ستكفكف دموع أشواقي وحنيني لمن أحببتهم، ولكل أشيائي الجميلات.
اِلتفتُ بكامل كياني الى الخلف، حين إنطلقت السيارة بنا من أمام منزلنا في أول ساعات الفجر، وأنا اُلوح بيديّ لجميع الأيادي التي ارتفعت تودعني وتبعث لي بالقبلات أهلي.. أقربائي… جيراني.. ومعالم شارعنا الجميل، الذي أمسك ببعض شعاع الشمس
كي يضيء لنا الدرب..
وحتى اختفى عن ناظري كل شيء…
كانت أشواقي تعصف بقلبي ليلا ونهارا،
تماماً كإعصارٍ هائجٍ، ولطالما كانت تتسبب لي بالفوضى..
فكلما زادتني غربتي احتراقاً؛ كلما ازددت ولعاً بفتح نوافذ أكثر تطل على مزيدٍ من الذكريات.
لم أكن أكتفِ بالمكالمات الهاتفية المكلفة، التي كانت ترهق جيوبنا..
ولا حتى بالرسائل الورقية، تلك التي ما كان بمقدورها أن تلتقط ذبذبات ما خبأته في دارنا من أسرار وحكايات.
تلك الحكايات التي، لطالما كانت محور أحاديثي وسلوتي في كل جلساتي النسائية.
إصراري على الحياة جعلني أتحمل قساوة الأيام وأُحسن النوايا تجاهها.
وأخيرا وبعد طول البعد ومرارة الغياب
حان موعد اللقاء..
سأعود إليك يا موطني وأدخل أجواءك يا بغداد
سأحلق إليك على جناحين، أحدهما يحمل الحنين، والآخر يحمل كثيراً من الأشواق
وأمام ضوءك الساطع؛
أقسم أنني سأكف عن البكاء.
ظروف الحرب التي حلت بالعراق؛ كانت قاسية مدمرة، فلقد كنا نستمع للأخبار والألم يعتصر قلوبنا، رحماك يا إلهي كيف أحاطت النكبات بهذه الدرة البيضاء!..!
وكيف توقفت عقارب الزمن عن الدوران.. !!
حتى صار الليل والنهار يجلدان حضارتها.
يحرقان ماضيها وحاضرها بسياط من نار…!
كل ما سمعته وعرفته عنك يا موطني لم يمنع قراري بالقدوم إليك.
فقد سبقني إلى بغداد لهفتي ووجدي وعشقي.
نعم والله لقد سبقتني روحي إلى هناك قبل جسدي.
قضيت أيام وأنا أتجول في شعابها،
وبعد وقت من وصولي؛ ساقتني الظروف لأراجع بعضاً من مؤسساتها ووزاراتها، لإتمام معاملات خاصة كنت قد ركنتها على رف الإنتظار.
بيد أني فوجئت، حين وقفت استحضر ذكرياتي، أمام أماكن ظننتها ما زالت مشتاقة لي
لكني رأيت مالم يخطر لي على بال، ولم أكن أتوقعه بأي حال من الأحوال..
لقد بدونا كالأغراب لم نتعرف على بعضنا، كل شيء قد تغير، حتى خُلت أنني ربما قد أضعت الطريق لها.!!
أذهلني الحزن حين رأيت رداءة أبنيتها ودوائرها.
حين بدت لي وكأنها عجائز تحتضر
الشوارع كلها متمردة
أكلتها قبائل من الحفر
وإشارات المرور يا حسرتي
كانت تقف خجولة حائرة،
لا تدري اي لون يتماشى مع عمى الألوان
الذي أصاب عيون الكثير من البشر.
أما عن المحاكم فحدث ولا حرج،
يا ويلتاه مما رأيت، فلقد كانت تعج بقلوب باكية يائسة عاجزة أعياها الظلم والقهر.
ولكل توقيع صغير بقلم يكاد أن يكون سحري لموظف متنمر؛ جمهرة لا ترى منهم سوى رؤوساً تزاحمت كأنه يوم الحشر .
لا أناقة في الحديث، ولا أناقة في الملبس، ولا في المظهر .
الكل ساخط يلعن ويشتم ويتمنى الموت أن يحضر.
أما عن عملة الدولة الرسمية فصار الدولار بديلا عن الدينار ،
ولم يعد للدينار أي قيمة أو قدر .
والرشوة وما أدراك ما الرشوة،
فلقد رأيتها تطفو على السطوح
سيدة ذات مقام حاضرة في كل مجلس ومحضر..!
أصررت أن اختم جولتي، برؤية بيتنا الذي لم يعد لنا…
لقد عصفت بروحي رعشة وقشعريرة حين إقتربت منه ولاح في الأفق.
ترجلت من السيارة عند مدخل شارعنا، مشيت أتلفت يمنة ويسرة، أبحث بعينيّ عن معالم حفظتها
ولطالما رددتها في غربتي حكايات وألحان…!
ذكريات جدران.. كانت تحني جذوعها، لتكون معبرا أمام أهل الدار والجيران..!
ذكريات بيوت.. كانت أبوابها تعزف نوتات حبّ وأشواق،
تدعوك للزيارة دون سابق معرفة أو اتفاق..!
أشجار ونخيل كانت تصطف على ألأرصفة كحراس أبطال،
تتمايل أغصانها لزقزقة العصافير وضحكات الأطفال..!
ترى أين اغصان أزهار الشبوي والرازقي والياسمين
التي كانت تتدلى من أسوار بيوتهم؛ تشي بعطر أرواحهم وضياء سرائرهم..؟!
ترى أين ذهب جيراننا الذين كانت أصواتهم وحكاياتهم تطرب لها الشمس وتتراقص على ايقاعاتها النجوم..؟؟
سألت أخي عن أحوالهم وماذا حل بهم ؟
فأجاب بكل حزن وقهر: لقد هرب منهم من هرب لينجو بنفسه من الويلات، وتوفي منهم من توفي، ومن بقي منهم باعوا بيوتهم لأناس لا نراهم ولا نعلم عنهم شيئا.
ووسط هذا الذهول استفقت فجأة لأرى ما وصلت له حال دارنا.
لم أصدق أنها والحديقة قد اجتثتهما زلازل هذا الزمان.
وقفت اُصغي السمع لعلي أدرك صوتا يخرجني من كابوسي الصفيق.
أو يشفق عليَّ أحدهم ويخبرني أنني قد ضللت وأضعت الطريق..!
لكن صدى وجعي ارتد عليَّ بالخذلان
ولسان حاله يقول لي:
عودي إلى غربتك أيتها الشقية،
عودي الى غربتك التي كنتِ فيها بالعز ترفلين.
ففي وطنك صار السادة عبيد وعزيز القوم مُهان..!